بين الفن والواقع.. قراءة انطباعية لـ”ذكريات زنزانة” ووقفة مع السجون العربية واليمنية

ذكريات زنزانة (La noche de 12 años)، فيلم من إخراج ألفارو بريشنر، لا يقتصر على توثيق تجربة ثلاثة سجناء سياسيين في أوروغواي، بل يتجاوزها إلى استكشاف جوهر القمع في الأنظمة المستبدة. هذه ليست مراجعة نقدية، بل قراءة انطباعية تحليلية تتعمق في التجربة الإنسانية التي ينقلها الفيلم، وربطها بواقع السجون السياسية، خاصة في اليمن.
بين العقاب والغموض.. السجن كتجربة مفتوحة على الألم
“نظر الرجل إلى المحكوم وسأل الضابط: هل يعرف السجين عقوبته؟”
أجابه الضابط ببرود: “لا، سيختبرها بنفسه.”
_ فرانز كافكا، في مستعمرة العقوبات
بهذا الاقتباس، الذي تصدر أيضًا مشهد البداية في فيلم La noche de 12 años (ذكريات زنزانة)، يختزل كافكا جوهر العقاب في الأنظمة القمعية. ليس مجرد سلبٍ للحرية، بل تجربة غامضة ومفتوحة على احتمالات من الألم والعزلة، حيث لا يُخبر الضحية بحجم معاناته إلا حين يعيشها بنفسه.
نال فيلم ذكريات زنزانة اهتمامًا نقديًا كبيرًا، ورأى فيه كثيرون شهادة بصرية على قمع الأنظمة المستبدة، لكن بالنسبة لي كمشاهد يمني، لم يكن مجرد سرد سينمائي عن ماضٍ بعيد، بل مرآة لحاضر يعيشه المئات في بلادي. هنا، في زنازين معزولة عن الزمن، يُلقى بأشخاص في السجون دون تهمة حقيقية، لا أحد يطالب بإطلاق سراحهم سوى أمهاتهم وأصدقائهم، ولا تجد مأساتهم صدى حتى في المسلسلات أو نشرات الأخبار.

ما يميز فيلم ذكريات زنزانة ليس الإثارة أو حبكة الهروب التقليدية، بل بناءه البطيء الذي يعكس عزلة المسجونين المتصاعدة داخل زنازينهم. الصورة الأولى التي يلتقطها هي لحظة الاعتقال في ليلة خريفية باردة، ثلاثة شبان جميعهم ينتمون إلى حركة ثورية ضد النظام الديكتاتوري. لا يظهر الفيلم هؤلاء الشبان كضحايا فقط، بل كأشخاص يقاومون آلة القمع بطريقة غير مرئية، من خلال أفكارهم، مشاعرهم، وذكرياتهم، منذ اللحظة الأولى يدرك المشاهد أن السجن هنا ليس مجرد مكان، بل حالة وجودية تهدف إلى سحق الروح قبل الجسد.
يتجلى ذلك عندما وقعت عين أحد المسجونين على عبارة كتبت على جدار السجن: “يا من دخلت هنا، افقد الأمل”. لم تأتي العبارة كمجرد نقش، إنما كتصريح مباشر لفلسفة القمع القائم على تحطيم الانسان من الداخل، يُمنع السجناء من التواصل مع بعضهم البعض أو حتى مع الحراس، يمنعون عن كل شيء يربطهم بالحياة أو بالأمل.
الكلمة في وجه القمع.. خوف السلطة وجهلها بقوتها
لطالما كان الخوف من الكلمة سمة مشتركة بين الأنظمة القمعية على مر التاريخ، ورغم أن الفيلم يتناول تجربة أمريكا اللاتينية في السبعينيات، حيث أن تهمة اعتقال الثلاثة الشبان إنتمائهم لحركة ثورية إلا أن الفيلم لم يُسلط الضوء على خوف السلطة من الكلمة فقط بل يكشف جهلها العميق بمدى القوة الكامنة في الكلمات البسيطة التي يعتقدون أنهم قادرون على قمعها، في مشهد يستدعي التوقف، يتحدث أحد الحراس مع زميله عن فتاة يكنّ لها مشاعر لكنه لا يعرف كيف يعبرلها ذلك. يتدخل أحد السجناء، الذي يبدو ككاتب سابق، ويقترح عليه أن يكتب رسالة لها. فالعسكري الذي ينتمي إلى منظومة تستمد شرعيتها من القهر والسلاح، يجد نفسه هنا في لحظة مكاشفة مع ذاته، لا السلاح يمنحه القدرة على التعبير، ولا السلطة تمنحه القوة ليواجه مشاعره. وحدها الكلمة، التي احتقرها النظام وطمسها، هي ما تمدّه بجسر للتواصل مع الآخر. فيقترح السجين أن يكتب الرسالة ويوقعها باسم الجندي. اللافت في هذا ليس فقط أن السجين هو من أهدى الجندي تلك اللحظة من الوعي، بل في الطريقة التي تعيد فيها الكلمات ترتيب التوازنات داخل المنظومة القمعية نفسها، فبعد نجاح رسالته، يتم منح السجناء طعاما جيدًا، والسماح للمعتقلين بالخروج إلى ساحة الزنزانة لرؤية بعضهم البعض كإمتنان عابر عن بلوغ هدفه، دون أن يغير هذا من جوهر السجن.

وهم العدالة.. حين تصبح منظمات حقوق الانسان مجرد ديكور
لا يتوقف الفيلم في كشف وحشية الأنظمة القمعية من خلال التجويع والتعذيب الجسدي، بل أيضًا من خلال التلاعب بمؤسسات يُفترض أنها تدافع عن حقوق الإنسان. في أحد أكثر المشاهد رمزية، وهو يعكس حقيقة مألوفة في العديد من السجون في العالم، تأتي لجنة من الصليب الأحمر لتقييم الأوضاع الإنسانية داخل السجن. فجأة يتم تنظيف الزنازين و يقدم الطعام، تُمنح الكتب، ويرتب كل شيء ليبدو وكأن المعتقلين يعيشون في ظروف مقبولة. لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك عندما يتم استدعاء السجناء للمثول أمام اللجنة، لا يُسمح لهم بالكلام. بمجرد أن يذكر أحدهم اسمه يأمره الضابط بالانصراف، وكأن وجودهم مجرد شكليات لا أكثر، لا يتم تقييم ظروفهم الحقيقية، ولا يُسمح لهم بالتحدث عن العذاب الذي يعيشونه.
في النهاية، القمع لا يعاقب السجين وحده، بل يعاقب كل من يحبّه. وهنا يأتي الوجه الآخر للمأساة: العائلات، التي تتحوّل إلى ضحية أخرى للسجن
الأم.. خط الدفاع الاخير في وجه الاستبداد
وسط كل هذا القمع، يظهر صوت أخريقاوم، في إحدة اللحظات العاطفية المميزة في الفيلم، هي تلك التي تجمع بين السجين ووالدته. تدور بينهما محادثة فترى ابنها يكاد ينهار تحت وطأة العزلة، ترفض أن تقبل استسلامه. تصرخ قائلة: “إنهم يريدون أن يقودوك إلى الجنون، لا تسمح لهم بذلك! قاوم بكل طريقة تستطيعها، لا أحد يستطيع أن يأخذ ما بداخلك!” وعندما يجيبها الابن بصوت ضعيف: “لم أعد أعرف كيف أقاوم”، ترد الأم بحزم: “بل تعرف! المهزومون فقط من يتوقفون عن القتال. ستتخطى هذا وتمضي قدمًا، لا أحد سيأخذ ما بداخلك.”
هذه الثيمة تتجاوز كونها حوارًا بين أم وابنها، بل تكشف عن البنية العميقة للصراع بين الاستبداد والروابط الانسانية التي يحاول طمسها، حيث لا تكتفي هذه الأنظمة باعتقال الأفراد فقط بل تسعى إلى تمزيق الروابط التي تمنحهم القوة.
وفي سياق واقع المعتقلين لدى السجون القسرية في اليمن تتكرر هذه المشاهد، إذ لا تقتصر معاناة الأمهات على رؤية أبنائهن في السجون، بل تمتد إلى البحث المضني عن أثر لهم، في ظل أنظمة تخفي المعتقلين قسرًا وتسعى إلى عزلهم عن أي امداد انساني، وتقوم بتحويل السجين إلى كائن وحيد ومنقطع، وتظل العائلة وخاصة الأم، خط الدفاع الأخير، للمطالبة أمام جدران الصمت عن مصير ولدها التي لا تعرف مكانه، ولا تهمته، ولا إن كان على قيد الحياة.
من العتمة إلى الضوء..
يختتم ألفارو بريشنر فيلمه بصورٍ تمتد من العتمة الخانقة إلى ضوء الحرية المتوهج، ليؤكد أن القمع، مهما بدا مطلقًا، لا يستطيع مصادرة الذاكرة أو إخماد الرغبة في الحرية. المفارقة أن مثل هذه الأفلام تُصنع في أمريكا اللاتينية، بينما في العالم العربي نادرا ما تتناول الدراما السجون السياسية بجرأة. وفي اليمن، حيث آلاف المعتقلين في السجون، لم يجرؤ أي عمل درامي على نقل مأساتهم. حتى في شهر رمضان، حيث تُفتح الملفات المسكوت عنها، تظل هذه القضية غائبة، كأن من يعيشون خلف القضبان ليسوا أكثر من أرقام منسية.
في النهاية، ربما لم يكن فيلم ذكريات زنزانة مجرد قصة عن ثلاث سجناء سياسيين في أوروغواي، بل شهادة متجددة على أن القمع له وجه واحد، سواء كان في أمريكا اللاتينية، أو في أي بقعة أخرى من العالم.